إنسانيات 2 .. الطريق إلى المعرفة

لا يمكن أن يبدأ طريق المعرفة باليقين … على الإطلاق
فمفتاحك للدخول إلى طريق العلم والتنور هو الشك والاعتراف الضمني بالجهل والعوز .. وهذا ديدن من عرفوا القليل وبلغوا النذر اليسير من العلم والحكمة.

ولنا في الدكتور مصطفى محمود عبرة .. وهو الذي قال:  “ليس إنساناً من لم يتوقف يوماً في أثناء عمره الطويل ليسأل نفسه  … من أين وإلى أين وما الحكاية !”
لنا فيه خير مثال … فهو الذي قضى من عمره ثلاثين سنة يسأل ويفكر ويشكو مرارة الشك حتى عرف اليقين … فخرج إلينا بكتب نفيسة تروي كل ظمآن فكتب (رحلتي من الشك إلى الإيمان) وغيره من الكتب التي تناقش المشكك والملحد بطريقة العارف والمجرب.

وقبله بألف سنة تقريباً كان أبو حامد الغزالي الملقب بحجة الإسلام، والذي توفي في سن الخامسة والخمسين وعلى صدره كتاب البخاري، يسير على نفس المنهج في الشك والتفكر وإطالة النظر والتأمل في ما هو عليه من رأي ومنهج … يقول عنه الدكتور عارف كيلاني:
“ولا بد من الانتباه إلى ظاهرة هامة في حياة الغزالي: وهي أن الرجل كان دائم التبدل في أفكاره وانتماءاته وأساليبه بسبب تبدل خبراته وقناعاته. والذين يجهلون هذه الطبيعة في الغزالي وأمثاله يختلفون في تقويمه وتصنيفه. فمنهم من يجعله متكلماً أشعرياً، ومنهم من يجعله صوفياً، ومنهم من يجعله فيلسوفاً، ومنهم من يجعله أصولياً …. ولكن الحقيقة أن الغزالي مر بهذه المحطات حتى انتهى إلى طابعه الخاص الذي ميزه عمن سواه، وأهّله لأن يلعب الدور الذي لعبه.”

لا يولد الإنسان عالماً مكتملاً ولا فقيهاً كشف له حجاب الغيب والمعرفة … نحن نرث ماضياً محملاً بألوان الجهل والتخلف والخرافة وفيه بقايا من نور يكاد يخبو … فإذا لم نضع ذواتنا على مجهر الفحص والحقيقة … لن نتبين الصالح من الفاسد .. وسنبقى على جهلنا مقيمين … والأسوأ من هذا أننا سنعتبر كل ما نعتنق من أفكار ورثناها وتشربناها من محيطنا المتخلف ثوابتاً لا يجوز نقاشها أو التفاوض عليها … وسندخل حالة جمود فكري واستعصاء على التعلم والتغير نحو الأفضل.

ولا علم لمن لم يسأل … ولمن لم يسأل نفسه أولاً قبل غيره
لا علم لمن افترض أنه يعرف … فالعارف لا يعرف … والصحيح لا يبرأ

Posted on 08/11/2013, in إنسانيات متسلسلة. Bookmark the permalink. 3 تعليقات.

  1. اليوم دخلت المدونة، وكل ما قرأت موضوعا، أجد نفسي أنتقل إلى قراءة ما هو مرتبط به..
    والكثير من الأسئلة تراودني..
    طريق المعرفة لايبدأ الا باليقين، هل من الممكن أن نقبل بمن يقول أن الشك بوجود الله هو طريق معرفته حقاً، وقد ولد على فطرة الاسلام وببيئة اسلامية وإن كانت الافكار الخاطئة فيها كثيرة؟! والى أي درجة يكون الشك مقبول؟!
    أحببت عندما كتبت سابقا.. إنما الأعمال بالنيات.. وأن ليس كل من في بلاد الغرب هم كافرون أو أنهم إلى النار.
    لن أطيل كثيرا في الكلام.. اعتقد أن علي التفكير مليا..لكن.. شكرا لك على هذه المدونة.. احببتها .. ترتسم ابتسامة على وجهي كلما قرأت وأشعر بشيء من السكينة والهدو عندما أدخل ء..حماك الله

    • في البداية أهلاً وسهلاً بكِ في مدونتي المتواضعة جداً .. سعيد حقاً بوجودك وإطراءك

      بالنسبة إلى فكرة الشك واليقين ..
      ما زلت مقتنع منذ كتبت هذه التدوينة وإلى الآن بأن الشك هو مفتاح باب المعرفة
      وهنا أتحدث عن الشك الحقيقي الصادق الناتج عن تفكير وتأمل وليس عن عنجهيات وعصبيات وانفعالات وردود أفعال.
      ورغم أني لم أحصر فكرتي بموضوع الإيمان بالله والإلحاد ولكن حتى بالنسبة لهذا الموضوع .. لا أرى الشك خطأً ما دام شكاً صادقاً هدفه الوصول إلى الحقيقة بتجرد.
      لو لم يشك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعتقداتهم الشركية لما أسلموا !
      اليقين الأعمى شر مطلق .. والشك المطلق هو شر أيضاً
      كل إنسان على هذه الأرض يولد ورأسه محشوّ بعقائده التي ورثها من محيطه الاجتماعي وهو على يقين تام مطلق بصحة هذه المعتقدات .. ولن يستطيع الخروج من أسر هذه العقائد إلا بسلاح الشك المفضي إلى يقين .. ولا أتحدث عن شك يقود إلى شك ..
      اؤمن بوجود حقيقة واحدة صحيحة .. وكل رحلة عقلية وقلبية وروحية مخلصة محايدة جادة ستقود إليها بلا شك .. وكل ضلال في الوصول ناتج عن ضلال في السلوك والمسير باتجاه هذه الحقيقة.
      وعندما نتحدث عن أفكار كهذه .. لا يمكننا أن نقول لغير المسلمين .. عليكم بالشك .. وللمسلمين .. عليكم باليقين الأعمى .. ما دمنا على حق فنحن لا نخشى التفكير وإعادة نشر الحقائق والأفكار والمبادئ وتددقيقها وإعادة إثباتها .. طبعاً كل هذا الكلام بشرط واحد وهو الإتقان .. فالموضوع لا يحتمل عبث الجاهلين.

      شكراً لكِ لمرورك وكلماتك التي أنعشت ذاكرتي ودفعتني إلى التفكير بالموضوع مجدداً :)

اترك لي أثراً :)