إنسانيات 1 .. نداءٌ إليك أيها الإنسان

لماذا ” إنسانيات” ؟

هي نداءٌ موجهٌ لك أيها الإنسان لأنك ما عدت إنساناً ، لأن جوهرك إيها الإنسان لم يعد برّاقاً كما خلقه الله، لأنك فقدت الكثير من أنوارك وبهائك وقدسيتك التي خلقت لتكون عليها .
لأن الإنسان امتهن أخاه الإنسان ، وصارت دماء البشريّة سلعةً تعقد لأجلها الصفقات ، وتنظم للتفاوض على أسعارها المزادات .
كم أبكي حزناً على ما حلّ بك يا أقدس خلق الله ، يا من أمامك سجدت ملائكة الله ولأجلك سُخرّت أكوانه .

عندما رأيت تلك الأرواح تُزهق بدناءة وسفور، والأشلاء باتت أكوام لحمٍ لا رمز فيها ولا قيمة، وعندما باتت مشاهدة أنهار الدماء ومن وراءها الدموع طقساً يومياً، وعندما بتنا نقرأ أرقام الموت على الشاشات وتتلقفها أسماعنا وكأنها درجات الحرارة أو حالة الطقس، أدركت أن الهاوية باتت قريبة جداً، وأن ” شفا الحفرة ” التي لطالما تحدثنا عنها قد أصبحت ” ماضينا السعيد ” !

لقد عادت الجاهلية تضرب من جديد، والحقيقة أن الجاهلية لم تكن يوماً جاهلية العرب قبل الإسلام فحسب، ولكنها جاهلية البشرية كلها حين تتنصل من قيمها وأخلاقها وتطفئ شعلة المحبة في قلوب أبناءها وتنصّب المصلحة والدناءة على عرش الحياة، وما أتعسها يومئذٍ من حياة.

يقول سيد قطب : “فالجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة، ولكنها طابع روحي وعقلي معين، طابع يبرز بمجرد أن تسقط القيم الأساسية للحياة البشرية، كما أرادها الله، وتحل محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة، وهذا ما تعانيه البشرية اليوم في حالة الارتقاء الأولى، كما كانت تعانيه من قبل في أيام البربرية الأولى.”

نعم .. تقدمت الحضارة ولكن بشكل أعمى وعلى حساب المادة فقط دون الروح، وهذا التقدم الأعمى هو الأصل في مصائبنا، والأصل هو العمى وليس التقدم، فالحضارة الماديّة لا بدّ وأن تكون في خدمة الإنسان الذي هو أصل الحياة ومبتغاها، أم أن تكون حضارةً على حساب تدمير الإنسان وتشويه القيم وتدنيس الضمائر، فهي وبالٌ في وبال، ففي حين كان السيف يقتل انساناً، صار الجندي يضغط زراً فيبيد شعباً !

فما أتعسها من حضارة وما أشقانا بهذا التطوّر حين لم يقترن بالحفاظ على طهارة الروح والنظرة القدسيّة لأكرم خلق الله.

“إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط ، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب ، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث” عبد الوهاب المسيري

ولست أرى في عالمِ اليوم مصابٌ أخطر من ضياع شخصية الإنسان واجتثاث إنسانيّته ، وتحولّه إلى صانعٍ للمادة أو مستهلكٍ لها، وكم صرخت عقول المفكرّين على طول الزمان أن حضارةً بلا قيم، وإنساناً بلا أخلاق، وآلةً بلا قلبٍ يمسك بها ، ما هي إلا سيوف مسلطةٌ على أرواح البشر، ولكن _وللأسف_ ماتت تلك الكلمات خلف سعي الإنسان الوحشيّ المتمرّد على فطرته، وطالت يد الظلام عصور البشر واصطبغت أرضنا بالدموع والدماء، ونطق الكون بلغة العيون الذابلة قهراً وحرماناً، وضجّت شوارعنا بقهقهات المترفين على حساب أولئك الجوعى والمعذبين على أطراف الأرض.

يقول د. مصطفى محمود :
” هذا زمن الضنك يا سادة برغم العلم والاختراعات والفيديو والتلفزيون والنزول على القمر واختراق الفضاء وتحطيم الذرة وجراحة الليزر وزرع الأجنة والهندسة الوراثية وعجائب الكمبيوتر … لقد تقدمنا … كسبنا الكثير هذا صحيح …  لكن ما خسرناه كان أكثر … خسرنا النبل والإنسانية والمحبة والوداعة والبساطة والشهامة والجمال والأناقة والنظافة.”

أعلم يقيناً أنّ من السذاجة أن أتخيل عالماً مثالياً ، تسود فيه المحبة والعدل والإحسان واحترام الإنسان لأخيه الإنسان ويختفي منه الشرّ والظلم والتعاسة والشقاء نهائياً. لأنّ الشر كامنٌ في النفوس، والإنسان ميّال بطبعه نحو التفلّت الأخلاقي والانسياق وراء الشهوة والغريزة.
ولكنني أعلم أيضاً أن الدعوة إلى تلك المثاليّة _المستحيلة عملياً في هذه الحياة_ هي ضربٌ من ضروب الحكمة المطلوبة، لأننا حين ندعو إلى الكمال الأخلاقي وإحياء الضمائر فإننا حقيقةً نرسم صورةً جميلةً للعالم المُتخيل الذي نحلم به جميعاً.
والمطلوب فعلاً، ليس الوصول إلى ذلك العالم، بقدر السعي إليه، إن الغاية من الدعوة إلى المثاليّة ليست تحقيقها وإنما هي الوصول إلى عالمٍ يرتقي فيه الإنسان نحو الأفضل سعياً نحو المثالية بغض النظر عن إمكانية الوصول إليها، لأننا كلما ارتقينا خطوةً نحو الكمال فهذا يعني أننا نعيش في عالمٍ أفضل.
وانطلاقاً من هذه الفكرة، سأحلم بعالمٍ مثاليٍّ وسأدعو إليه، بسذاجة طفوليّة إن أردتم، ولكن من منّا ذاك الذي ينظر إلى الطفولة دون أن يحلم بالعودة إليها، كذلك أنظر إلى المثاليّة، وكما يثير الطفل ببراءته بواعث السعادة والطمأنينة في قلوب البشر الأسوياء، كذلك تثير المثاليّة في قلبي بواعث السكينة والراحة.

“لقد كان أحد الفلاسفة يقول كن (كاملاً) في عالم فاسد .. تكتمل الحياة من حولنا بالتدريج وتتجه ببطء نحو مثلها الأعلى، وأنت تستطيع بلا شك أن تدفعها في هذا الاتجاه بمجرد أن تكون (إنسان) لا يسلم قياده لغرائزه وشهواته وأنانيته ونوازع الشر وإغراءاته.” عبد الوهاب مطاوع

Posted on 05/11/2013, in إنسانيات متسلسلة. Bookmark the permalink. أضف تعليق.

اترك لي أثراً :)