Category Archives: إنسانيات متسلسلة

سلسلة من المقالات تحت عنوان “إنسانيات” … كنت أنوي نشرها على شكل كتاب .. ولكنني رأيت أن الطريق ما يزال طويلاً حتى أستحق لفظة “كاتب”

إنسانيات 4 … عصر الفساد أم فساد كل عصر ؟

 تتكرر الشكوى دائماً من أننا وصلنا إلى زمانٍ ماتت فيه الأخلاق وانعدمت الأمانة وقلّ الشرف واندثر الوفاء …

ويشعرك هؤلاء بأننا أصبحنا في زمانٍ ليس كغيره من الأزمنة …
أصبحنا نعيش في عصر الفساد والسواد والقبح والدمامة !
فهل هذا صحيح؟
وهل ينحدر الإنسان باستمرار وتسارع نحو الرذيلة والتحلل؟
أم أن الزمان ثابت … والإنسان ثابت أيضاً … والتاريخ يعيد نفسه باستمرار؟
وكيف نفهم إذاً شكوى الناس منذ عصور الرومان والجاهلية من نفس المصاب والبلاء؟
وللكاتب المصري “عبد الوهاب مطاوع” في كتابه (صديقي ما أعظمك) لفتةٌ جميلةٌ في هذا الموضوع
فيذكر كيف قال شاعر الجاهلية : “ذهب الذي يعاش في أكنافهم!
ويوم غزوة بدر قال أحدهم : “اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة
وكيف نعى الرومانيون تدهور الأخلاق وفساد الذمم

وهذا الكلام على وجه كبير من الصحة، فلم يعدم التاريخ يوماً النائحين على ضياع الأخلاق وفساد الضمائر، فهل هي نسبية الحديث للقديم! أم أنه عقل الإنسان نفسه الذي لم يتغير ولم يتبدل ولم يبرح يصوب نظره على النصف الفارغ من الكأس دوماً.

ربما لا يكون النصف فارغاً أبداً … ربما يصبح النصف ثلثاً أو ثلاثة أرباع
ولكن الثابت .. أن الخير موجود … والشرّ موجود … كلاهما من نواميس الكون والطبيعة… وخاب من أغفل بصره عن أحدهما.

إنسانيات 3 : أيها الإنسان .. أنت أفضل !

أنت لست ما يقوله الناس عنك … آراؤهم فيك وتقييماتهم لك … هي في الغالب _إن لم نقل على الدوام_ انعكاس لبيئتهم النفسية وتصوراتهم عن الحياة وشعورهم تجاهها.

فلا شك بأن المغرور بنفسه وذكائه سيراك غبياً مهما فعلت. والطاغي في قوته سيراك ضعيفاً وصعلوكاً حتى وإن كنت متوازناً مع بيئتك ولكنه في موقع متطرف يجعل حكمه عليك غير منصف. والحاقد أو الحاسد سيحاول تحطيمك.

وعلى النقيض أيضاً، فربما يكون لك معجبون هاموا في حبك على وجوههم، فعميت عن معايبك عيونهم، ورفعوك إلى ما يقرب مرتبة التقديس والتبجيل. وهؤلاء أيضاً لا يؤخذ برأيهم.

لا بدّ لك حين تريد أن تقيم نفسك أن تنفصل عن ذاتك أولاً فتنظر إليها كما تنظر إلى إنسان آخر لا تربطك به صلة، ثم تضع أمامك موازين الخير والشر، والحق والعدل، والخيريّة والسوء، ثم تحكم على نفسك بتأنٍّ ورويّة حتى تحدد موقعك من الناس بصدقٍ وإنصاف. فإن فعلت … فأنت أفضل بلا شك.

أنت أفضل … حين تدرك أنك لم تصل إلى القمة التي لم يصل إليها من عامّة البشر أحد … ثم حين تدرك أنك قادرٌ بلا شك على الصعود نحوها.

وكما يقول ستيفن كوفي : بين المحفّز والاستجابة … تكمن أعظم قوة تمتلكها _ حرية الاختيار. 

فنحن لا نؤمن بحتمية واقعنا بالمجمل … ربما تفرض علينا بعض الخطوط ونضطر للانحناء أحياناً أمام العاصفة، ولكننا في النهاية أحرارٌ بعقولنا وأرواحنا، وبإدراكنا لذواتنا نستطيع أن نسخّر الظروف لصالحنا، أو نجد بين مضائق الحياة متنفساً ومخرجاً لا ينعدم.

إنسانيات 2 .. الطريق إلى المعرفة

لا يمكن أن يبدأ طريق المعرفة باليقين … على الإطلاق
فمفتاحك للدخول إلى طريق العلم والتنور هو الشك والاعتراف الضمني بالجهل والعوز .. وهذا ديدن من عرفوا القليل وبلغوا النذر اليسير من العلم والحكمة.

ولنا في الدكتور مصطفى محمود عبرة .. وهو الذي قال:  “ليس إنساناً من لم يتوقف يوماً في أثناء عمره الطويل ليسأل نفسه  … من أين وإلى أين وما الحكاية !”
لنا فيه خير مثال … فهو الذي قضى من عمره ثلاثين سنة يسأل ويفكر ويشكو مرارة الشك حتى عرف اليقين … فخرج إلينا بكتب نفيسة تروي كل ظمآن فكتب (رحلتي من الشك إلى الإيمان) وغيره من الكتب التي تناقش المشكك والملحد بطريقة العارف والمجرب.

وقبله بألف سنة تقريباً كان أبو حامد الغزالي الملقب بحجة الإسلام، والذي توفي في سن الخامسة والخمسين وعلى صدره كتاب البخاري، يسير على نفس المنهج في الشك والتفكر وإطالة النظر والتأمل في ما هو عليه من رأي ومنهج … يقول عنه الدكتور عارف كيلاني:
“ولا بد من الانتباه إلى ظاهرة هامة في حياة الغزالي: وهي أن الرجل كان دائم التبدل في أفكاره وانتماءاته وأساليبه بسبب تبدل خبراته وقناعاته. والذين يجهلون هذه الطبيعة في الغزالي وأمثاله يختلفون في تقويمه وتصنيفه. فمنهم من يجعله متكلماً أشعرياً، ومنهم من يجعله صوفياً، ومنهم من يجعله فيلسوفاً، ومنهم من يجعله أصولياً …. ولكن الحقيقة أن الغزالي مر بهذه المحطات حتى انتهى إلى طابعه الخاص الذي ميزه عمن سواه، وأهّله لأن يلعب الدور الذي لعبه.”

لا يولد الإنسان عالماً مكتملاً ولا فقيهاً كشف له حجاب الغيب والمعرفة … نحن نرث ماضياً محملاً بألوان الجهل والتخلف والخرافة وفيه بقايا من نور يكاد يخبو … فإذا لم نضع ذواتنا على مجهر الفحص والحقيقة … لن نتبين الصالح من الفاسد .. وسنبقى على جهلنا مقيمين … والأسوأ من هذا أننا سنعتبر كل ما نعتنق من أفكار ورثناها وتشربناها من محيطنا المتخلف ثوابتاً لا يجوز نقاشها أو التفاوض عليها … وسندخل حالة جمود فكري واستعصاء على التعلم والتغير نحو الأفضل.

ولا علم لمن لم يسأل … ولمن لم يسأل نفسه أولاً قبل غيره
لا علم لمن افترض أنه يعرف … فالعارف لا يعرف … والصحيح لا يبرأ

إنسانيات 1 .. نداءٌ إليك أيها الإنسان

لماذا ” إنسانيات” ؟

هي نداءٌ موجهٌ لك أيها الإنسان لأنك ما عدت إنساناً ، لأن جوهرك إيها الإنسان لم يعد برّاقاً كما خلقه الله، لأنك فقدت الكثير من أنوارك وبهائك وقدسيتك التي خلقت لتكون عليها .
لأن الإنسان امتهن أخاه الإنسان ، وصارت دماء البشريّة سلعةً تعقد لأجلها الصفقات ، وتنظم للتفاوض على أسعارها المزادات .
كم أبكي حزناً على ما حلّ بك يا أقدس خلق الله ، يا من أمامك سجدت ملائكة الله ولأجلك سُخرّت أكوانه .

عندما رأيت تلك الأرواح تُزهق بدناءة وسفور، والأشلاء باتت أكوام لحمٍ لا رمز فيها ولا قيمة، وعندما باتت مشاهدة أنهار الدماء ومن وراءها الدموع طقساً يومياً، وعندما بتنا نقرأ أرقام الموت على الشاشات وتتلقفها أسماعنا وكأنها درجات الحرارة أو حالة الطقس، أدركت أن الهاوية باتت قريبة جداً، وأن ” شفا الحفرة ” التي لطالما تحدثنا عنها قد أصبحت ” ماضينا السعيد ” !

لقد عادت الجاهلية تضرب من جديد، والحقيقة أن الجاهلية لم تكن يوماً جاهلية العرب قبل الإسلام فحسب، ولكنها جاهلية البشرية كلها حين تتنصل من قيمها وأخلاقها وتطفئ شعلة المحبة في قلوب أبناءها وتنصّب المصلحة والدناءة على عرش الحياة، وما أتعسها يومئذٍ من حياة.

يقول سيد قطب : “فالجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة، ولكنها طابع روحي وعقلي معين، طابع يبرز بمجرد أن تسقط القيم الأساسية للحياة البشرية، كما أرادها الله، وتحل محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة، وهذا ما تعانيه البشرية اليوم في حالة الارتقاء الأولى، كما كانت تعانيه من قبل في أيام البربرية الأولى.”

نعم .. تقدمت الحضارة ولكن بشكل أعمى وعلى حساب المادة فقط دون الروح، وهذا التقدم الأعمى هو الأصل في مصائبنا، والأصل هو العمى وليس التقدم، فالحضارة الماديّة لا بدّ وأن تكون في خدمة الإنسان الذي هو أصل الحياة ومبتغاها، أم أن تكون حضارةً على حساب تدمير الإنسان وتشويه القيم وتدنيس الضمائر، فهي وبالٌ في وبال، ففي حين كان السيف يقتل انساناً، صار الجندي يضغط زراً فيبيد شعباً !

فما أتعسها من حضارة وما أشقانا بهذا التطوّر حين لم يقترن بالحفاظ على طهارة الروح والنظرة القدسيّة لأكرم خلق الله.

“إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط ، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب ، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث” عبد الوهاب المسيري

ولست أرى في عالمِ اليوم مصابٌ أخطر من ضياع شخصية الإنسان واجتثاث إنسانيّته ، وتحولّه إلى صانعٍ للمادة أو مستهلكٍ لها، وكم صرخت عقول المفكرّين على طول الزمان أن حضارةً بلا قيم، وإنساناً بلا أخلاق، وآلةً بلا قلبٍ يمسك بها ، ما هي إلا سيوف مسلطةٌ على أرواح البشر، ولكن _وللأسف_ ماتت تلك الكلمات خلف سعي الإنسان الوحشيّ المتمرّد على فطرته، وطالت يد الظلام عصور البشر واصطبغت أرضنا بالدموع والدماء، ونطق الكون بلغة العيون الذابلة قهراً وحرماناً، وضجّت شوارعنا بقهقهات المترفين على حساب أولئك الجوعى والمعذبين على أطراف الأرض.

يقول د. مصطفى محمود :
” هذا زمن الضنك يا سادة برغم العلم والاختراعات والفيديو والتلفزيون والنزول على القمر واختراق الفضاء وتحطيم الذرة وجراحة الليزر وزرع الأجنة والهندسة الوراثية وعجائب الكمبيوتر … لقد تقدمنا … كسبنا الكثير هذا صحيح …  لكن ما خسرناه كان أكثر … خسرنا النبل والإنسانية والمحبة والوداعة والبساطة والشهامة والجمال والأناقة والنظافة.”

أعلم يقيناً أنّ من السذاجة أن أتخيل عالماً مثالياً ، تسود فيه المحبة والعدل والإحسان واحترام الإنسان لأخيه الإنسان ويختفي منه الشرّ والظلم والتعاسة والشقاء نهائياً. لأنّ الشر كامنٌ في النفوس، والإنسان ميّال بطبعه نحو التفلّت الأخلاقي والانسياق وراء الشهوة والغريزة.
ولكنني أعلم أيضاً أن الدعوة إلى تلك المثاليّة _المستحيلة عملياً في هذه الحياة_ هي ضربٌ من ضروب الحكمة المطلوبة، لأننا حين ندعو إلى الكمال الأخلاقي وإحياء الضمائر فإننا حقيقةً نرسم صورةً جميلةً للعالم المُتخيل الذي نحلم به جميعاً.
والمطلوب فعلاً، ليس الوصول إلى ذلك العالم، بقدر السعي إليه، إن الغاية من الدعوة إلى المثاليّة ليست تحقيقها وإنما هي الوصول إلى عالمٍ يرتقي فيه الإنسان نحو الأفضل سعياً نحو المثالية بغض النظر عن إمكانية الوصول إليها، لأننا كلما ارتقينا خطوةً نحو الكمال فهذا يعني أننا نعيش في عالمٍ أفضل.
وانطلاقاً من هذه الفكرة، سأحلم بعالمٍ مثاليٍّ وسأدعو إليه، بسذاجة طفوليّة إن أردتم، ولكن من منّا ذاك الذي ينظر إلى الطفولة دون أن يحلم بالعودة إليها، كذلك أنظر إلى المثاليّة، وكما يثير الطفل ببراءته بواعث السعادة والطمأنينة في قلوب البشر الأسوياء، كذلك تثير المثاليّة في قلبي بواعث السكينة والراحة.

“لقد كان أحد الفلاسفة يقول كن (كاملاً) في عالم فاسد .. تكتمل الحياة من حولنا بالتدريج وتتجه ببطء نحو مثلها الأعلى، وأنت تستطيع بلا شك أن تدفعها في هذا الاتجاه بمجرد أن تكون (إنسان) لا يسلم قياده لغرائزه وشهواته وأنانيته ونوازع الشر وإغراءاته.” عبد الوهاب مطاوع

“الإنسانيات” القادمة

منذ فترة حوالي السنة .. قررت البدء بمشروع كتابي الاول .. واحترت في اختيار العنوان فتركته بلا عنوان ولكن الأفكار في رأسي كانت تدور حول “الإنسان” .. فخطرت لي عناوين مثل “إنسانيات” أو “أيها الإنسان” .. ولكن على العموم .. بدأت بالكتاب وأنهيت قرابة 25 صفحة في مواضيع ومجالات مختلفة

الآن أشعر بأنني غير مستعد لإنتاج كتاب كامل متكامل الأركان .. وبأني لم أصل بعد إلى مرحلة النضج الأدبي والثقافي الكافية لأكون “كاتباً” رسمياً

لذلك سأبدأ الآن إن شاء المولى بنشر ما كتبته ضمن هذا المشروع على شكل سلسلة تدوينات متفرقة تحت عنوان “إنسانيات”